الفصل الرابع عشر

   مر يومان على سفر إبراهيم ، ولم تخرج نقاء من الدار ، وفي صباح اليوم الثالث صممت على أن تذهب لزيارة خالة إبراهيم ، التي ربته وأنشأته ، وكانت له بمثابة الأم ، وعند الباب أبصرت سعاد وهي تترجل من سيارتها أمام البيت ، فلم يسعها إلا أن تقف لتستقبلها ، وكان لقاء سعاد لها ودوداً حاراً ... ولما عرضت عليها الدخول إلى الدار ، قالت : أنها تود لو تجلس قليلاً في الحديقة ، وفي ظل إحدى الشجيرات ... وفهمت أن سعاد تحاول الانفراد بها دون خالتها ، ولكنها لم يسعها أن تمتنع من ذلك ، وعزمت على أن تذهب لتستدعي أمها بعد قليل ، ولكن سعاد لم تتطرق إلى ابراهيم وسفره إلا بكلمات قصيرة ، وكان حديثها يدور حول أمور شتى بعيدة عن إبراهيم ، ولهذا لم تجد نقاء أي داع لطلب حضور أمها وهي تعلم أنها تنفر من سعاد وتتحاشاها.. تحدثت سعاد عن حرصها الشديد على التنزه وهي راجلة في كل صباح .. ثم سكتتت لحظة تنتظر تعليقاً من نقاء على كلامها ، ولكنها لم تعلق بشيء ، فلم تر بداً من أن تسألها قائلة :

  الفضيلة تنتصر   124

   ـ وأنت يا نقاء ! ألا يسمح لك بالتنزه للترفيه عنك في بعض الأيام ؟...
   وآلم نقاء أن تكون جميع كلمات سعاد مسمومة... ولم تر بداً من أن تجيبها وهي تتعمد اللامبالاة.
   ـ وقد أقصد منتزه الجمهورية ، أو حدائق الغوطة.
   وتظاهرت سعاد بالاستغراب ، وقالت :
   ـ آه ، إذن أنت لا تتعدين هذين المكانين ؟
   ـ لا ، مطلقاً.
   ـ وهل كان إبراهيم يصحبك إلى هناك ... أقصد أيسمح لك إبراهيم بذلك ؟
   ـ أما مع إبراهيم كنت أذهب إلى كل مكان يراه مناسباً لي.
   ـ إذن أنت وحدك تذهبين إلى هذين المكانين ؟
   ـ نعم ... أو مع أبي.
   ـ أو تذهبين وحدك يا نقاء ؟!
   ـ نعم بعد أن يأذن لي إبراهيم !
   ـ كنت أظن أن تقاليدك تمنعك من ذلك.
   ـ إن الآداب التي تعتبرينها تقاليد ، لا تقيد الحريات المهذبة ، وإنما تشترط في كل ذلك أن يكون في إطار ديني ، وأن لا يخرج عن حدود الآداب الاسلامية ... ولي من

  الفضيلة تنتصر   125

عقيدتي ومبدأي ما يقيني كل سوء ، ويدفع عني كل شر.
   ـ وكيف تقضين أوقاتك هناك وأنت وحيدة بين مئات من الناس ؟
   ـ إن من عادتي أن أعتزل المنطقة المزدحمة ، وأختار لي ركناً قصياً ، وأصحب معي آثر كتاب عندي ، فإن المطالعة هناك تحلو لي كثيراً..
   فتأوهت سعاد وكأنها تستمع إلى كلام ذي شجون وقالت بصوت يفطر أسى ومرارة :
   ـ يا له من ظلم فظيع ... أمثلك تعتزل المجتمع وتعيش على هامش الحياة ؟ أتكون محاسنك هذه رهناً للمعطف والطرحة السوداء ، وتكون أفكارك الفتية مدفونة بين صفحات كتاب ؟ إن أسفي عليك لا يكاد ينقضي يا نقاء ! فأنت جديرة باحتلال عرش ملكات الجمال . حقاً أن الماس ليبدو غريباً إلا على جيدك العاجي ... أنا على ثقة من أنك لا تزالين تجهلين حقيقة جمالك وروعته ، فالفتاة الصغيرة لا تشعر بواقع جمالها إلا إذا استمعت إليه من أفواه الرجال ، فهم أخبر ما يكونون بأنواع الجمال ، إن حياة المرأة تبدأ عندما تشعر أن ألوفاً من القلوب أخذت تحوم حولها. فما دامت الفتاة مغلفة بالأبراد ، فهي لن تتمكن أن تعرف لأنوثتها طعاماً ، أو تشعر لجمالها لذة ... أنت مظلومة يا نقاء ! فها أنت تقبعين هنا في عزلتك هذه ، في الوقت الذي يتنقل

  الفضيلة تنتصر   126

فيه إبراهيم حراً طليقاً في ربوع فرنسا ... أنت تتجنبين رجال بلدك ، وإبراهيم يتقلب في أحضان غانيات باريس...
   قالت نقاء :
   ـ أية حياة هذه التي تتحدثين عنها يا سعاد ؟! ومتى كانت غرائز الرجال هي المحور في تهديد شخصية الفتاة ؟ إن غرائز الرجال تتمكن أن تقيم جانباً واحداً من جوانب وجودها فقط وهو الجانب المادي ! هذا الجانب الذي لا يمكن أن يكتب له الاستمرار بصورة ثابتة في حياة الفتاة ، ولهذا فإن الكيان الذي تصل إليه الفتاة في مسيرة حياتها نتيجة حكم غرائز الرجال عليها محدود الأمد والنمو والكيان الذي تحققه الفتاة لنفسها عن طريق حكم العقول والأفكار ، هو الطريق الثابت القابل للتصاعد والتقدم نتيجة تصاعد الأسباب التي دعت إليه ، والدين هو المنار الذي يهدي السائرات إلى تحقيق وجودهن على أساس هذا الواقع الثابت المستقيم ، إنني لست مظلومة ، ولكن الفتاة التي تفتقد أنوثتها وكرامتها وتستحيل إلى سلعة مقروضة يختارها الرجل تارة ويبذها أخرى .. مظلومة يا سعاد ...! إنني لست أسيرة وإنني حرة في جميع تصرفاتي ، لا أخضع لأحد فيها سوى الله عز وجل ، ولكن الأسيرة تلك التي يتلاعب بمقدورات وجودها واضع موضة ، أو مصمم زي من الأزياء ، أو مقترح صبغ من أصباغ الوجه والكفين ، أما الآن فأنني سأذهب لأستدعي أمي ، فقد ظننت أنك لن

  الفضيلة تنتصر   127

تتطرقي إلى أمثال هذه المواضع ... أما الآن فقد وجب حضور أمي.
   ولكن سعاد سارعت بالنهوض أيضاً وهي تقول :
   ـ ولكني آسفة يا نقاء ...! فقد حان وقت عودتي إلى البيت ، فإن لدي ضيوفاً ولابد أنه قادمون بعد قليل.
   فلم ترد عليها نقاء ولم تحاول أن تستبقيها ، بل ظلت واقفة وقد اصطبغ وجهها بحمرة قانية ، فقد ودت لو أن سعاد لم تكن ضيفتها أو قريبتها ، إذن لعرفت كيف تتصرف معها.
   ولهذا فقد انصرفت سعاد بسرعة ، وحرصت على أن تجتمع مع محمود في ذلك اليوم ، وأن تشير أمامه إلى أن الفتاة التي يحوم الصراع حولها ، تتردد على منتزه الجمهورية ، أو حدائق الغوطة ، وإنها لا تتعدى هذين المكانين ما دامت لم تصل إلى اختيار واحد من الاثنين ... ومنذ ذلك اليوم كان محمود يتنقل بين هذين المكانين ، وكله عيون تتطلع ليجد ضالته بين الحسان ، بعد أن رآها وعرفها في المطار ، وقد توطد أمله بالفوز بها بعد أن رآها في صحبة أبيها الذي صورته له سعاد بصورة صديق أو خليل وعزا ذلك إلى أن مصاحبتها لهذا الرجل الكهل ، لم تكن إلا لأجل المال ، وهو يملك المال والشباب ... ومرة رآها في ركن قصي من المنتزه ، وكان معها

  الفضيلة تنتصر   128

نفس الرجل الكهل ، فلم يشأ أن يتقرب نحوها ، واستمر ينتظر فرصة أخرى في يوم ما . .

Next